الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.الوقوف: .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: .قال ابن عاشور: فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلًا مما كان فضلًا عن الغنى فقرضه على الناس، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم، سواء في ذلك ما كان مفروضًا وهو الزكاة أو تطوّعًا وهو الصدقة، فأطنب في الحثّ عليه، والترغيب في ثوابه، والتحذير من إمساكه، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ، وهو أن يعطي المدين مالًا لدائنه زائدًا على قدر الدين لأجل الانتظار، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين، يقولون: إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي. وقد كان ذلك شائعًا في الجاهلية كذا قال الفقهاء. والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر، وربّما تسامح بعضهم في ذلك. وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهرًا بالمراباة في الجاهلية، وجاء في خطبة حجّة الوداع «ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب». وجملة: {الذين يأكلون الربوا} استئناف، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله: {لا يقومون} إلى آخره. اهـ. .قال القرطبي: ثم إن الشرع قد تصرّف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده؛ فمرّة أطلقه على كسب الحرام؛ كما قال الله تعالى في اليهود: {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 161]. ولم يرد به الرّبا الشرعيّ الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام؛ كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] يعني به المال الحرام من الرّشا، وما استحلوه من أموال الأُمِّيِّين حيث قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأيّ وجه اكتُسب. والربا الذي عليه عُرف الشرع شيئان: تحريم النَّسَاء، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبيّنه. وغالبه ما كانت العرب تفعله، من قولها للغريم: أتقضي أُم تُرْبِي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه. وهذا كله محرّم باتفاق الأُمة. اهـ. .قال ابن عاشور: والربا: اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْوًا بسكون الباء على القياس كما في الصحاح وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى: {فلا يربو عند الله} [الروم: 39]، وقال: {اهتَزّتْ ورَبَتْ} [الحج: 5]، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَواننِ. وكتب بالألف، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظرًا لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضًا قال الزجاج: ما رأيت خطأ أشنع من هذا، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون {وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ} [الروم: 39] بفتحة على الواو {في أموال الناس} [الروم: 39] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش، وهما كوفيان، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة. وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف، والشأن أن يكتب ألفًا، فقال صاحب الكشاف: كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو، والتفخيم عكس الإمالة، وهذا بعيد؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف. وقال المبرّد: كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهًا بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء: 32]. وقال الفراء: إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا: رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك، وهذا أبعد من الجميع. والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيرًا إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهًا على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء. وقال صاحب الكشاف: وكتبوا بعدها ألفًا تشبيهًا بواو الجمع. وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضًا عن أن يضعوا الألف فوق الواو، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفًا فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو. وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم. أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} في سورة آل عمران [130]، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصًا للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا. وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة، فقد جاء في سورة الروم [39]: وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه: {الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء}. ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظًا عليهم، وتعريضًا بتخويف المسلمين، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر. وقد قال ابن عباس: كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضًا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: {ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 275] وقال تعالى: {والله لا يحب كلّ كفّار أثيم} [البقرة: 276]. ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله} [البقرة: 278] الآيات، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار: إنّما البيع مثل الربا. فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبيانًا لكيفية تدارك ما سلف منه. اهـ. .قال القرطبي: وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته بالياء؛ لأجل الكسرة التي في أوّله. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع! لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يُخطئوا في التثنية وهم يقرءون {وَمَا آتَيْتُمْ مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس} [الروم: 39] قال محمد بن يزيد: كُتب الربا في المصحف بالواو فرقًا بينه وبين الزنا، وكان الربا أولى منه بالواو؛ لأنه من ربا يربو. اهـ. .قال الفخر: وقال الفخر: اعلم أن الربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل. أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرًا معينًا، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به. وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك. إذا عرفت هذا فنقول: المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول: لا ربا إلا في النسيئة، وكان يجوز بالنقد، فقال له أبو سعيد الخدري: شهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين: كنا في بيت ومعنا عكرمة، فقال رجل: يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس، فقال: إنما كنت استحللت التصرف برأيي، ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه، فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله، وحجة ابن عباس أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقدًا، وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة، وليست كل زيادة محرمة، بل قوله: {وَحَرَّمَ الربا} إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا. وذلك هو ربا النسيئة، فكان قوله: {وَحَرَّمَ الربا} مخصوصًا بالنسيئة، فثبت أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول ربا النقد، وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله، فوجب أن يبقى على الحل، ولا يمكن أن يقال: إنما يحرمه بالحديث، لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز، وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا؟ وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أما القسم الأول فبالقرآن، وأما ربا النقد فبالخبر، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة، ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء: حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة، بل ثابتة في غيرها، وقال نفاة القياس: بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه: الحجة الأولى: أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة، فلو كان الحكم ثابتًا في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال: لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلًا، أو قال: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلًا، فإن هذا الكلام يكون أشد اختصارًا، وأكثرر فائدة، فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة، علمنا أن حكم الحرمة مقصور عليها فقط. الحجة الثانية: أنا بينا في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع} يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة، ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها، فكان هذا تخصيصًا لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد، وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة، ثبت الحكم فيها بخبر الواحد، ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد، وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن، فكان هذا ترجيحًا للأضعف على الأقوى، وأنه غير جائز. الحجة الثالثة: أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص، لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص، وذلك غير جائز، أما أولًا: فلأنه يقتضي تعليل حكم الله، وذلك محال على ما ثبت في الأصول، وأما ثانيًا: فلأن الحكم في مورد النص معلوم، واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز، وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل هي ثابتة في غيرها، ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب. فالقول الأول: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس، وفي الذهب والفضة النقدية. والقول الثاني: قول أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كل ما كان مقدرًا ففيه الربا، والعلة في الدراهم والدنانير الوزن، وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس. والقول الثالث: قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت، وهو الملح. والقول الرابع: وهو قول عبد الملك بن الماجشون: أن كل ما ينتفع به ففيه الربا، فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا، والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير. اهـ.
|